تعمل الصين اليوم على أعادة أمجادها عن طريق محاولة أحياء مفكريها وقادتها. ومن أجل تغيير صورتها في نظر العالم وأهم الشخصيات الصينية على الاطلاق، والتي تسعى الصين لعرضها وهو كونفوشيوس. فإذا أردنا فهم عقلية الصين بشكل خاص والشرق الاقصى بشكل عام. علينا أن
نفهم الكونفوشيوسية، عبر التاريخ. كان ينظر الى كونفوشيوس على أنه معلم وفيلسوف
وباحث اجتماعي ومصلح. وأحيانا يوضع في مرتبة الانبياء فإذا كان هناك شخص واحد حدد
للصين هويتها فأنه كونفوشيوس.
لم يعد خفيا على أحد أن
الصين، تحاول اليوم أن تسلب سيادة العالم من الغرب وامريكا تحديدا. ولتحقيق ذلك هو
ليس في مجال التكنلوجيا والاقتصاد فقط، بل العمل على جميع الأصعدة.
لكن أهم تحدي تواجهه
القيادة الصينية اليوم هو في تحفيز الشعب
الصيني أولاً للعمل على تحقيق هذه الهدف، وعن طريق أحياء الكونفوشيوسية. التي
تعتبر هوية الصين وأحد أهم انتاجاتها الفكرية، وهي تحاول بطريقة أو بأخرى نشرها
إلى العالم، على أنها ليست فقط مصدرا يبعث على الفخر والى عمق تاريخها. بل تريد
استعمال هذه الفلسفة أيضاً كأداة لإصلاح الدمار الذي تزعمه قد لحق بالعالم. بسبب
الرأس مالية الغربية والامبريالية. لكن من هو كونفوشيوس وماذا كانت فلسفته؟.
" لمحة عن حياة كونفوشيوس"
لا يعرف الكثير عن شخص كونفوشيوس، لأنه عاش في
القرن السادس قبل الميلاد. في تلك الفترة كانت الصين دويلات متفرقة وكانت دائما في
حروب وصراعات مستمرة، فيما بينها حتى أن أسمه الحقيقي أصبح طي النسيان. وهو يعرف
بالمعلم (كونغ ). وهو أسم العائلة وهذه الكنية حورت لاحقا إلى اللاتينية ليعرفه
العالم بتسمية كونفوشيوس، لكن برغم من قلة المعلومات عن حياته الشخصية. الا أن ما
يعرف عنه أنه ولد لعائلة نبيلة لكنها فقيرة. وعلى الرغم من اضطراره إلى العمل منذ
الصغر إلا إن نسب عائلته أمن له مستوى جيدا من التعليم . حيث أن هذا المزيج الفقر
والتعليم أعطى له تصورا واضحا لصعوبة الحياة. بالنسبة للعامة ومدى التعاسة التي
يعيش فيها أقرانه. دون أن يدركوا ذلك بسبب ضعف ثقافتهم، وكذلك فهم في مرحلة مبكرة
من حياته، كيف أن السياسيون الفاسدين كان لهم الدور الكبير فيما وصلت إليه البلاد
من خراب. أدرك أن مجمل المشاكل التي حصلت هي تراكم للعديد من حالات أهمال الواجب
والتقاعس عن العمل، بمعنى آخر الفساد الذي أصاب الصعيد الاداري والاجتماعي
والعائلي. لذلك حاول تذكير مجتمعه بالأخلاقيات الاساسية التي تبنى عليها أي حضارة.
شغل منصب مستشار لعدة مسؤولين لكنه قله ما سمع كلامه، أما لكونه يقول ما لا يفهمه
الأخرون أو أن اقتراحاته كانت غير عملية في نظر المسؤولين، طموحه الأكبر كان أن
يشغل منصب رفيعا. لكي يطبق فلسفته لكن هذا الحلم لم يتحقق. عند وفاته كان يحتقر
نفسه لأنه فشل في مسعاه، لكن فشله في السياسة دفعة لينجح في التعليم حيث تمكن من
إيصال أفكاره لتلاميذه والتي ميزته عن باقي المدارس الفكرية. وكون الكونفوشيوسية
اليوم معروفة للجميع فهذا معناه أنه نجح في مجال التعليم. ولكن الصعوبة التي تواجه
الباحثين عن شخصية الكونفوشيوس، هي أن الفترة التي عاش فيها كانت مليئة بالصراعات
والتقلبات السياسية. حينها لم يكن هناك بلد أسمه الصين. بل كانت تلك الأرض مقسمة
الى عدة أمارات أو دويلات صغيرة كل منها تحكمها سلالة معينة وكما هي العادة مثل
هكذا ظروف، هناك تحالفات وعداوات بين هذه الدويلات، وبعد انهيار دولة امبراطورية
(شو) 770(Zhou)ق.م، وتمزقها الى دويلات صغير كانت
هناك ما يزيد عن أربعة قرون من الحروب المستمرة بينها، والتي سميت من قبل المؤرخين
بحقبة الربيع والخريف. كانت لكل دولة
تنظيماتها الادارية الخاصة، وكذلك تبنت كل منها فلسفة خاصة. لتميز نفسها عن
الأخرى، ولذلك هناك تسميه أخرى لهذه الحقبة حصر المدارس الفكرية (المئة). وهذه
المدارس الفكرية تتراوح بتعاليمها بين العملية المتركزة على تطبيق القوانين
الوضعية الصارمة. وبين الروحانية مثل الطاوية، فلسفة كونفوشيوس تعتبر وسطية معتدلة
مقارنة بالمدارس الفكرية الأخرى. فهي تبحث في المجال الفردي والاجتماعي، مثل أي
مفكر آخر كونفوشيوس كان يبحث في مشاكل
زمانه. وأراد بشكل أو بأخر ايجاد الحل للمصائب التي حلت في بلاده. بسبب صراعات
الممالك الصغيرة. عاش في إمارة ( لو) وتحكي المصادر أن الدولة الجارة (كي) أرسلت الى
الامير (لو) هدية مكونه من مئتين من أجود أنواع الجياد. وكذلك مئتين جارية جميلة،
أنشغل الأمير ( لو) في هذه الهدايا كثيرا لدرجة أهمل واجبه كحاكم. وهذا ما أزعج
كونفوشيوس كثيرا. لم تنفع نصائحه مع الامير، لذلك قرر ترك أمارة ( لو) والسفر في
العديد من بلدان الشرق الأقصى. لعله من يجد من يستمع إليه حول الاخلاق والفضيلة
ويأخذ بنصائحه، ولكن كل الأمراء الذين التقى بهم لم يلقي له أحد بال. وبعد 13 سنة
من الترحال عاد الى مسقط رأسه، وقرر أن يكرس وقته في تعليم الأخرين. عسى أن يأتي
من بعده من يحول حال البلاد الى افضل. أرث كونفوشيوس أستمر من خلال تناقل هذه
التعاليم عبر الاجيال، ومن خلال خيرة المفكرين الذين تعاقبوا بعده. وكل الذي نعرفه
عنه جاء من تلامذته (72) والمئات من اللاحقين الذين تعاقبوا عبر الاجيال. وسيرته
وكل حكمه جمعت في كتاب أسمه كتاب التعاليم لكونفوشيوس، ومن طبيعي أن يكون هناك جدل
كبير، حول فيما كان كل ما مكتوب عن المعلم نفسه. دون أضافة أو تحريف عبر القرون،
لكن مع ذلك نستطيع أن نستخلص من كتاب التعاليم أن محور تفكيره. كان يدور حول
نقطتين ما الذي يجعل الانسان صالحا؟. وما الذي يجعل النظام الحكم عادلا؟. حيث
أعتقد كونفوشيوس أنه ليس بالضرورة على الجميع أن يكونوا فلاسفة وحكماء ولكن يكفي
أن يقوم كل فرد ما وكل إليه بالمسؤولية، لكي يعم الاستقرار والرخاء في أي دولة أو
مجتمع. وقد أولى الكثير من الاهتمام الى الطقوس الاجتماعية والترابط العائلي،
والذي يستلزم على جميع الأفراد الاحترام والطاعة لولي الأمر. لأن المجتمع أو
الحكومة هي بمثابة عائلة كبيرة. وما يتوجب تطبيقه في نطاق العائلة الحقيقي، يجب أن
يطبق أيضا في نطاق المجتمعي الاكبر. فعندما سأل كونفوشيوس عن كيفية ادارة النظام.
أجاب دع الحاكم يكون حاكما، ودع الوزير يكون وزيرا، ودع الأب يكون أبا ودع الابن
يكون أبنا. بالطبع اذا أخذنا هذا الكلام على ما هو، فسنجد فيه كثيرا من التفاؤل
والمثاليات التي قد تبدو بعيدة عن الواقع العملي. الا أن كونفوشيوس حذر من أن
النظام الذي يطبق القانون بقوة دون أن يتوافق هذا القانون مع طبائع وأخلاق تلك
الأمة. أو أنه لم يأتي من رغبة الشعب، وتطلعاته فإنما مصير هذا النظام هو سقوط
سريعا لأنه يتعارض مع شخصية ذلك الشعب من ناحية أخرى الحكومة التي تلتزم بواجباتها
وتحافظ على فضيلة وأخلاق تلك الأمة، فهي تعتبر حكومة شرعية تباركها السماء. ويكون
لزاما على الرعية أتباع هذا النظام وهذه فقرة مهمة يجب أن ننتبه لها..
"فلسفة كونفوشيوس"
يعتبر كونفوشيوس أحد أهم
الفلاسفة على الاطلاق وما زالت لتعاليمه تأثيرا كبيرا على المجتمعات الشرقية
وخصوصا الصين. لم يأتي بشيء جديد ولم يزعم أنه صاحب حركة فكرية جديدة نشبهه
بسقراط، بأنه حاول تذكير قومه بالأخلاق التي بنيت عليها الحضارات كالفضيلة وتحمل
المسؤولية. لكن بينما كان سقراط يحث الفرد على التذكير. كونفوشيوس كانت لديه حلول
ووضع طريقة لتنظيم الفرد والمجتمع والحكم. أساس فلسفته وهي الطيبة في الانسان
وميله لعمل الخير، وهناك مبدآن أساسيان تبنى عليها كل الأفكار والقوانين
والتشريعات. أولا: نظام الحكم أساسه رعاية مصالح الشعب والرعية وليس العكس. ثانيا:
المنصب يجب أن تعطى للمطلع على
مجال(التاو). والجنتسه يترجم من الصينية الشخص المحترم. هوالأنسان المثقف والواعي
الذي عليه أن يتعلم ويبدع في ستة مجالات.
الرماية / الفروسية /
الموسيقى / الأدب / الرياضيات / التاريخ / وعلى عكس المتعارف عليه في ذلك الوقت.
فأن كونفوشيوس قال أن الجنتسه يمكن أن يكون من العامة وليس بالضرورة أن يحصر في
طبقة النبلاء. على أننا يجب أن نعلم أن كلمة (تاو) بالنسبة لكونفوشيوس، لا تحمل
نفس المعنى الذي في طاوية. حيث أن اقرب ترجمة لهذه الكلمة هي (الطريقة). وتحمل لدى
كونفوشيوس معاني الفضيلة والصدق والإحسان،
لذلك (تاو) أمور متأصلة في طبيعة الأنسان وفي تركيبته. لكن لكي تظهر هذه الصفات
الطيبة على الانسان أن…
مقارنة الفلسفة
الكونفوشيوسية بالطاوية
يؤمن كونفوشيوس بنزعة
البشرية الى الخير، قام هو واللوتسا مؤسس الطاوية بدمج مفهوم (التاو) في
أيديولوجيتهما. إلا أن نسختها من (تاو) مختلفة بشكل واضح. يعتقد كونفوشيوس أن
(التاو) هي قوة اخلاقية تدفع الانسان ليكون اخلاقيا أكثر، تعاليمه لها وجه أخلاقي
واجتماعي بشكل كبير. من ناحية أخرى لدى لاوتسا ايمان راسخ بالتقاعس عن العمل حيث
ركز على اللاعمل. حيث أن الاخلاق أقل أهمية وتركيزه يصب على عدم عمل أي شيء. نعم
أدرك أن هذا كلامه غير منطقي، لكن التقاعس هو أفضل شكل من أشكال العمل وأفضل طريقة
للعيش في وئام مع الطبيعة. لا يحظى التفاعل الاجتماعي بتقدير كبير، تجنب العلاقات
الاجتماعية بل دائما البحث عن الذات، يجب أن يسير الجميع في طريقهم الخاص لايجاد
الذات الحقيقية نسخة (لاوتسا) من التاو هي انها القوى الطبيعية. انها كل شيء دفعة
واحده، ولاينبغي على المرء أن يحاول تعريفه. لأن (التاو)عند إذ سيختصر على وجهة أو
كيان واحد. تختلف نسخة (التاو) من شخص الى أخر، وعلى المرء أن يجد (التاو) الخاص
بنفسه.
فيما يتعلق بالقيادة لديهما
أراء مختلفة،يؤمن كونفوشيوس بان دور القائد هو رعايته الأفراد.دور الحاكم مطالب
بغرس الخير في رعاياه. القائد الجيد هو شخص ذو معرفة وتعليم . ويكون قادرا على
اتخاذ القرارات لصالح شعبه، يجب أن لا تتملكه المشاعر السلبية كالكبرياء أو الجشع.
وهي خصائص تتعارض بشده مع أساليب كونفوشيوس، وعلى نقيض من ذلك يعتقد لاوتسا. أن
الحاكم يجب أن يكون قدوة في عدم التصرف. يجب أن يكون دوره محدود وضئيل جدا في
الدولة. يجب أن يعيش في (التاو)، وأن يشجع الناس لذلك. الفكرة هي اذا كان المرء أن
يجد نفسه وأن يحب نفسه ويعرف من يكون، يمكنه هذا التعامل مع العالم بنفس العناية.
اجتماعيا تلعب الطقوس واحترام التقاليد دور كبير في تعاليم كونفوشيوس، فهو يؤمن
بإظهار الاحترام، يجب على المرء أتباع الطقوس المناسبة على سبيل المثال : رعاية
الوالدين وزيارة قبور الأقارب والتفاعل الاجتماعي هو أيضا مفتاح ويحبب مفهوم
الإحسان .
لاوتسا لا يركزعلى ذلك هو
يوصي بعدم فعل أي شيء. باختصار فأن وصايا كونفوشيوس هي: كن خيرا، تعرف على نفسك،
أحب نفسك وأحب الأخرين، كن حسن العشرة، كن متواضعا، أحترم الجميع، أطلب المعرفة
أتبع الطقوس، يجب على الحاكم الاهتمام بالرعية. بالنسبة لاوتسا فأنه يدعو إلى حد
كبير (للأناركية) هي لا تعمل شيء، وأن اللاعمل هو أفضل عمل لست بحاجة إلى المعرفة
أو السفر. فقط أبحث في داخلك وستجد السلام مع نفسك. (التاو) بحد ذاتها غير قابلة
للتحديد وهي شاملة لكنها تعرف بأنها قوة الطبيعة، التي تؤدي إلى العيش بانسجام
وسعادة في البيئة التي يتواجد فيها الانسان. وعلى الرغم من الاختلاف الجذري فيما
بينهما. الا أن هناك فلسفة لاحقتا ظهرت سميت النيوكونفوشيوسية، وتحاول هذه الفلسفة
دمج الكونفوشيوسية التقليدية مع الطاوية والبوذية هذه الفلسفة ظهرت في القرن
الثامن بعد الميلاد. واستمرت بعدة أشكال لحين قرن الثالث عشر. تدعو النيو
كونفوشيوسية، الى توسيع مدى رؤية لتبحث ليس فقط في التعاملات والعلاقات الإنسانية
بل كذلك البحث في كيان الإنسان وكذلك علاقته بالطبيعة.
الختام : منذ سقوط
الامبراطورية الصين العريقة سنة 1911. والصين حاولت جاهدة أن تنسى ماضيها لكي
تستبدلها بالحداثة. وبعد انهيار الاتحاد السوفيتي، ادركت الصين أن من الخطأ اتخاذ
ماركس ولينين رموز لها. وأن مستقبل هذه الدولة ليست في اتباع الشيوعية، فقد تبين
أن الشعوب لا تستطيع أن تنسلخ من تراثها ومن ماضيها. الكونفوشيوسية هي هوية الصين
وستبقى كذلك. لذلك من الافضل العمل على ما تمتلكه بدل العمل على الأيدولوجيات
المستوردة. ولتكون لها الريادة في العالم تحاول الصين أن تذكر الجميع بانها صاحبة
حضارة وتاريخ. بالاضافة في انها تحمل رسالة انسانية تريد ايصالها بشكل وبأخر لكل
البشرية. وهي أن الحل لكل الازمات العالمية، هو في تقديم ايدلوجية جديدة. مختلفة
عن الليبرالية الغربية التي تسيدت العالم بما يزيد عن قرن. اليوم الحكومة تمول حملات
تثقفية وتطبع الكتب، لنشر الفلسفة الكونفوشيوسية الى أرجاء العالم كون المخطط
الحكومة الحالية في أعادة أمجاد الصين، هو في تذكير شعبها أولا بالكونفوشيوسية.
ومن ثم نشر أفكارها إلى العالم. بتأكيد هذا مما يتعارض مع الثقافات الأخرى، فلكل
منطقة شعوبها وخلفياتها الحضارية والدينية والتي من الصعب تغيرها. والصين تدرك
جيدا ذلك لكنها عازمة على تجاوز جميع العقبات، في سبيل سطوتها على العالم فهل
ستنجح في غزو العالم بأيديولوجيتها. مثل ما غزته بصناعتها الزمن وحده كفيل
بالإجابة على هذا السؤال.
أرسلت بواسطة: أدارة الموقع | التاريخ: 16-04-2021 | الوقـت: 08:56:38 مساءا |
|