 من أصعب الأزمات التي تواجهها الأمة العربية اليوم، هي أزمة غياب القيادة العربية المحورية، التي لا يمكن لأي أمة في التاريخ أن يستقيم عودها، وتمتلك قوتها طالما فقدتها، وبالتالي فإن الأمة العربية اليوم في أمس الحاجة إلى ظهور قيادة محورية تستطيع أن تجمع الفرقاء العرب على كلمة سواء، في هذه المرحلة التاريخية الدقيقة، وهو ما يمثل أولى أولويات النهوض القومي العربي. والحديث عن العرب هنا لأنهم يمثلون وحدة جغرافية وتاريخية ولغوية واحدة ومصيرا مشتركا، وللأسف كل تلك العوامل المشتركة لم تشفع لهم لتفعيل العمل المشترك، بل أصابهم الكثير من الاختلاف والتشرذم، وتسللت القوى الخارجية بينهم وفرقتهم، وجعلتهم شيعا يكيدون لبعضهم بعضا، فتغيرت المفاهيم وأصبح الجار العربي المسلم هو الخصم، بينما العدو الصهيوني الذي احتل أراضيه، ونكّل بأهله هو الصديق، فتحولت المواجهة والاقتتال بين العرب أنفسهم بدلا من توحيد جهودهم في مواجهة الأعداء، فأي بلاء ابتليت به هذه الأمة!
تاريخ الأمة العربية
لقد مرت الأمة العربية خلال تاريخها بمراحل متغيرة، كان العرب يمثلون نواة الأمة المسلمة، بظهور سيد الخلق محمد صلى الله عليه وسلم، وسط الجزيرة، واستطاع بدعوته السماوية أن يوحد الجزيرة وما جاورها، ثم تمددت الخلافة الراشدة إلى ما حولها في بلاد فارس والشام، بل تجاوزتهما إلى أبعد من ذلك.
وجاءت الدولتان الأموية والعباسية لتمثلا الخلافة الإسلامية، وتمتلكا زمام القيادة بهذه الأمة، حتى وصلت إلى حدود الصين شرقا والأندلس غربا، ثم تراجعت هذه الدولة العربية الإسلامية فتعرضت لاحقا للحملات الخارجية من قبل المغول والصليبيين، ولكنها سرعان ما كانت تعود بقيادة دويلات سادت في فترات مختلفة من التاريخ كدولة الأيوبيين، ودولة المماليك ودويلات أخرى، سطع نجمها وأفل في فترات تاريخية معينة.
واستلمت الدولة العثمانية السلطة والقيادة لفترات طويلة من التاريخ، وحكمت بلاد العرب بقبضتها القوية، وما أن ضعفت وتلاشت في ظل صعود قوى أوروبية تمكنت من تقاسم ممتلكاتها، بما فيها مناطق المشرق العربي عموما، فوصل الحال بهذه الأمة إلى احتلال جميع أقطارها من المغرب غربا إلى العراق شرقا في القرن التاسع عشر، ثم جاءت مرحلة التحرر وقاد الأبطال العظام الخالدون في تاريخ هذه الأمة تلك المرحلة النضالية وتمكنوا ـ بعد تضحيات جسام ـ من أن ينالوا استقلال بلادهم، وتحقق ذلك في القرن العشرين، فظهرت الدولة العربية الحديثة الخارجة من رحم الاستعمار، وتواكب ذلك مع ظهور بعض القادة الأوائل في منتصف القرن العشرين أمثال الزعيم الخالد جمال عبدالناصر، الذي كان يمثل القيادة المحورية للعرب، فجمع الفرقاء على طاولة واحدة وساند حركات التحرر في الوطن العربي، وكرس مبادئ ومدرسة ناصرية ما زالت حتى اليوم تعتبر قبلة للأحرار.
شخصية عبدالناصر
ورغم الجدل الذي يدور حول هذه الشخصية التاريخية نتيجة التشويه الممنهج، إلا أن عبدالناصر أثبت قدراته القيادية للأمة العربية، اتفقنا او اختلفنا حوله. فقد كان عبدالناصر يمثل القيادة المحورية الجامعة في تلك الفترة الزمنية، رغم كل الظروف المحيطة بالمنطقة، ولم تتوفر تلك المميزات في قائد غيره حتى اليوم، بل كانت القاهرة تمثل محورية العواصم العربية، واستقطبت الحراك السياسي الدولي، وكأن قوة سياسية كبرى ظهرت في المنطقة العربية، ما أرق القوى الاستعمارية كثيرا، نظرا لتأثير نفوذ عبدالناصر على بقعة جغرافية كبيرة، بل تجاوز تأثيره إلى عدد من دول العالم الحر المتطلع إلى الخلاص من نير الاستعمار، وبعد مرحلة جمال عبدالناصر دبت الخلافات بين الأقطار العربية حتى وصلت في مرحلة لاحقة إلى مواجهات مسلحة، ضربت التضامن العربي في مقتل، وأدت إلى انفراط عقد هذه الأمة، وتم اختراق الوطن العربي مجددا من قبل القوى الاستعمارية، وظلت الأوضاع تسير من سيئ إلى أسوأ، رغم محاولات بعض القادة العرب تبوؤ تلك المكانة القيادية المحورية، ولكن لم يتأتَّ لهم ذلك، وما زالت الأمة العربية تتطلع إلى كيفية الخلاص من هذه الأوضاع المستعصية، وتأمل أن يخرج قائد عربي يوحد الصفوف، ويخرج الأمة من هذا التيه الذي عاشته على أرض الواقع. إن قضية غياب القيادة العربية المحورية لا يمكن حلها بالأطروحات السياسية والتجاذبات الفكرية؛ لأنها قضية مكونات بشرية، تضاف إليها عناصر ومعطيات أخرى مثل، محورية الدولة العربية، ومحورية أدوارها، وهذا لا يتوفر إلا لدول معينة تستطيع قيادة الركب العربي. وللأسف الشديد فإن الأوضاع الراهنة التي تمر بالأمة العربية لا تبعث الأمل بظهور قيادة مرجعية قومية عربية لقيادة الأمة نحو مستقبل مشرف، كما أن جامعة الدول العربية التي كنا نأمل قيامها بدورها المنوط بها، وبمسؤولياتها التاريخية، لم تتقدم للأمام، فما حدث في ليبيا والعراق مثال شاهد على تراجع وسلبية أدوار هذه الجامعة.
النظام الرسمي العربي
وللأسف الشديد قدمت الغطاء الشرعي للتدخل الخارجي في ليبيا والعراق، كما أنها تمثل انعكاسا للأوضاع العربية الراهنة، وما حدث لاحقا من ممارسة الدور السلبي والخطير نفسه على سوريا عام 2011، يمثل استمرارا لحالة التراجع ونموذجا لغياب القيادة، وقد ناشدنا النظام الرسمي العربي في حينه بتبني دوره الحقيقي في إنقاذ ما يمكن إنقاذه، وعدم دفع الدول العربية نحو المجهول، ولكن لم تجد تلك المناشدات أذنا مصغية، وبالتالي فإن وضع جامعة الدول العربية في سياقات الحل الذي يوحد العرب غير ممكن الآن، فرحم الله أولئك الرجال في مؤتمر القمة العربية في الخرطوم، الذي أعقب حرب يونيو/حزيران 1967 مباشرة، حين انطلقت اللاءات العربية الثلاث من ذلك المؤتمر (لا صلح، لا تفاوض، لا اعتراف) وبهذا عندما تمتلك الأمة قيادات تاريخية لا تستسلم للعدو، بل البدء في مرحلة جديدة من العمل العربي المشترك لجولة مقبلة مع العدو الصهيوني، فأعدوا العدة على المستوى السياسي والاقتصادي والعسكري، واستعدت الأمة العربية قاطبة تعززها ثقافة المقاومة، وأثبت العرب أنهم قادرون على هزيمة ما يسمى بالجيش الذي لا يقهر وتحقق النصر بعون الله.
وأخيرا، تبقى الطموحات مشروعة أمام الأمة العربية بظهور قيادة عربية توحدها وتدفعها للنهوض من أجل حل المشكلات المستعصية التي تواجهها اليوم، واستعادة العمل العربي المشترك وإحياء التعاون والتضامن العربي والسعي لامتلاك القوة السياسية والاقتصادية والعسكرية والثقافية وهي آمال عربية مشروعة .
أرسلت بواسطة: أدارة الموقع | التاريخ: 29-04-2021 | الوقـت: 08:58:17 صباحا |
|