زيارة الأربعين: البعد الروحي والتحديات الأمنية في العراق بقلم دكتور قاسم الحطاب
تُعدّ زيارة الأربعين إحدى أكبر التجمعات البشرية في العالم، حيث يتوافد الملايين من مختلف دول العالم إلى مدينة كربلاء لإحياء ذكرى أربعينية الإمام الحسين عليه السلام. هذه المناسبة ليست مجرد مسيرة دينية، بل هي حدث حضاري وروحي يعكس عمق الولاء لقيم العدالة والتضحية،
ويجسد روح التضامن الاجتماعي والتكافل الإنساني بين الزائرين، بغض النظر عن انتماءاتهم الطبقية أو الجغرافية. فالطريق إلى كربلاء، كما يصفه بعض الباحثين، هو “طريق القلوب قبل أن يكون طريق الأقدام”، حيث تذوب المسافات المكانية والنفسية، وتتحول المسيرة إلى رمز للوحدة الروحية.
لكن هذا المشهد الإنساني العظيم يواجه جملة من التحديات الأمنية، خاصة في السياق العراقي بعد عام 2003. فقد أصبحت زيارة الأربعين هدفاً مباشراً للجماعات الإرهابية التي تسعى لزعزعة الاستقرار وضرب النسيج الاجتماعي، باعتبارها تمثل رمزاً للهوية الدينية والثقافية لشيعة العراق. وتاريخياً، شهدت هذه المناسبة العديد من العمليات الإرهابية التي نفذتها تنظيمات متطرفة مثل “داعش” و”القاعدة”، مستهدفة الزائرين في الطرق المؤدية إلى كربلاء، أو في مراكز التجمع والخدمات.
دور الحشد الشعبي في تأمين الزيارة
أمام هذه التهديدات، برزت قوات الحشد الشعبي كأحد أهم أركان المنظومة الأمنية المسؤولة عن حماية الزائرين، إلى جانب القوات الأمنية الرسمية. ويستند الحشد في مهماته إلى خبرة ميدانية اكتسبها خلال المعارك ضد الإرهاب، مما مكنه من الانتشار الفعّال على طول الطرق المؤدية إلى كربلاء، وتنسيق الجهود مع وزارتي الداخلية والدفاع. وتشمل إجراءات الحماية تأمين محاور السير، وإجراء عمليات مسح أمني للمناطق الصحراوية والريفية المحيطة، إضافة إلى نصب السيطرات وتكثيف الجهد الاستخباراتي.
التحديات الأمنية القائمة
رغم هذه الجهود، تبقى هناك تحديات أمنية مركّبة، من أبرزها:
1. الخطر الإرهابي المستمر: ما زالت بعض الخلايا النائمة لتنظيم “داعش” تنشط في مناطق نائية، وتستهدف المناسبات الدينية باعتبارها فرصاً لإحداث صدمة إعلامية ومعنوية.
2. التعقيد الجغرافي: طول طرق الزائرين الذي يمتد لآلاف الكيلومترات، وتنوع المسارات بين الحضر والريف والصحارى، يجعل تأمين كل نقطة مهمةً بالغة الصعوبة.
3. الضغط اللوجستي: حجم الحشود الهائل يفرض تحدياً على إدارة الأمن، حيث يتطلب الأمر تنسيقاً عالي المستوى بين القوات العسكرية والأجهزة الاستخباراتية والخدمية.
4. الحرب النفسية والإعلامية: تبذل بعض الأطراف المعادية جهوداً إعلامية للتشكيك في قدرة القوات الأمنية والحشد الشعبي على حماية الزائرين، بهدف بث الخوف وزعزعة الثقة الشعبية.
البعد الرمزي والاستراتيجي
إن نجاح تأمين زيارة الأربعين لا يقتصر على حماية الأرواح فحسب، بل يمتد ليكون رسالة سياسية وأمنية تؤكد استقرار العراق وقدرته على تنظيم حدث عالمي بهذا الحجم في ظل بيئة إقليمية معقدة. كما أن الحشد الشعبي، عبر مشاركته الفعّالة، يرسخ صورته كقوة وطنية تحمي جميع العراقيين، ويعزز الروابط بينه وبين القاعدة الشعبية، خصوصاً في الوسط والجنوب.
خاتمة
تظل زيارة الأربعين حدثاً روحياً عالمياً، لكنها في السياق العراقي الراهن تحمل أيضاً بعداً أمنياً واستراتيجياً. فالتحديات التي تواجهها، خاصة المخاطر الإرهابية، تتطلب استمرار تطوير القدرات الأمنية والتنسيق بين المؤسسات المختلفة، مع المحافظة على الجو الروحي والإنساني للمسيرة. وبهذا، تبقى كربلاء أقرب من النبض، ويظل طريق الأربعين شاهداً على وحدة القلوب وصمود الإرادة أمام الظلم والعنف