ردَّ الكاتب والناقد العراقي عبد القادر جبار على الدارسين من النقاد والأدباء في القرنين (التاسع عشر، والعشرون) من أن قرآئتهم كانت مبنية على سرد تاريخي لِما طرأ على القصيدة العربية من تطورات، مبتعدين عن دراسة علاقة النص بالمتلقي، وكذا عدم دراسة مقدرة النص على الاستمرار والانكفاء.
تناول د. عبد القادر – عميد النقد الأدبي في العراق، كما يطيب لي ولزملائي بتسميته بهذا الاسم- نقاشات وآراء الباحثين والنقاد حول ضعف القصيدة العربية في القرن التاسع عشر، التي سادها التقليد، ووضع الباحث آراء هؤلاء النقاد موضع النقاش، وجعل منها آراءًا غير سديدة ، من كون هؤلاء النقاد والمؤرخين لم يطلعوا على مجمل النتاج الأدبي في تلك المرحلة، من كونهم –النقاد والمؤرخون- عمدوا إلى الانتقائية في الأحكام، وهذه الانتقائية من وجهة نظر د.عبد القادر (اربكت رؤية التحولات العامة والخاصة بحقيقة حركة الإبداع واتجاهاتها...)، وكذا بين الناقد عبد القادر عدم وضوح موقف المؤرخ الأدبي من مفهومي (الأبداع والاتباع) اللذين من خلالهما تتضح الرؤية الجديدة للقصيدة، وكما وضح الكاتب في كتابه الخرق والممانعة مسألة جوهرية، مفادها أن المؤرخ الأدبي استند في تقسيماته التي تخص مراحل تطور الأدب بعد سقوط بغداد إلى التقسيم السياسي والاجتماعي، الأمر الذي جعل القصيدة تتبدد في امكانيات تحديد سماتها ولغتها وتقنياتها وسمة الإبداع فيها.
وقف الكاتب وقوفًا رائعًا على القصائد التي أوردها بشمولية التنوع، وذلك بتحليل بُناها الداخلية، ومقارناتها بالبُنى الشعرية القديمة لإدراك مواطن الحداثة والجمال التي مكنت النمط من التطور، وكما ناقش الباحث البُنى التي يمكن أن تكون رائدة في مجال احياء القصيدة العربية، وخاصة تلك التي سبقت مرحلة ظهور الثلاثي المصري (البارودي، وشوقي، حافظ إبراهيم)، وبهذا الجهد الكبير يكون ناقدنا أول من التفت لبيان هذا المفهوم الذي تناولته أقلام الكتاب دون الرجوع إلى ما رجع إليه كاتبنا في كتابة (الخرق والممانعة).
وكما عمد الباحث إلى رصد البعد الجمالي في القصيدة العربية، وهذا ما ميز كتابه وما جاء به عن سابقيهِ الذين تناولوا في نقاشاتهم ومؤلفاتهم البُعدين الذاتي والموضوعي في عملية التحولات الشعرية، بعيدًا عن البعد الجمالي الذي يعد القاعدة الأساس في تطور القصيدة العربية. وأكد من وجهة نظره أن الحداثة في تلك الحقبة كانت منوطة بمفهوم الانقلاب على الموروث التقليدي...، وتحوله إلى نمط مغاير لا غير.
وإلى جانب ما أسلفنا من القول يصف الباحث عبد القادر جبار في كتابه، اهمال النقاد المصريون للمرحلة التي سبقت النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وبهذا يكون -النقاد المصريون- اضاعوا على الشعرية العربية والنقد العربي قراءة التحولات وأحوالها وكيفية تطورها، وهذا ما جاء على حد قول الكاتب، مستندًا على ذلك بآراء وتحليلات ورؤى جديدة أفضت الى الأدب مفاهيم بالغة في الأهمية، من كونها جاءت في تصحيح مسارات مغلوطة أو متحيزة علّقت في أذهان القرّاء، حتى امتدت إلى المناهج الدراسية . وردَّ عبد القادر جبار بأسلوب نقاشي على كثير من آراء هؤلاء النقاد، مبينًا معالم الكبوات التي وقعوا فيها، يقابلها الكاتب بالأدلة التي يذهب بها إلى أعمق التحليلات التي توضح الفوارق الشاسعة والمفارقات الكبيرة التي لم تقم على أسس نقدية، ولا على قراءات علمية متينة للنص الأدبي.
وقفت هذه الدراسة بإزاء عميق على كثير من النماذج الشعرية، ليتبين من خلالها تصحيح بعض المفاهيم التي قيدتها الدراسات السابقة، ويشكل هذا البحث - الخرق والممانعة- أكثر إيرادًا للنصوص التطبيقية، وتحليلاتها العلمية الدقيقة، فهو يتقصى الأدلة ليضعها في عقدٍ واحد ثمين على رقبة البعد الجمالي الحقيقي للحداثة في عصر النهضة، وكذا جاء البحث ليثبت أن شعر شعراء الاحياء ( لم يكن رائدًا في مجاله) إنما هناك محاولات أكثر أهمية سبقت شعراء الاحياء.
يتميز الكاتب وكتابه بالقدرة العالية على امكانية التحليل والبعد العميق للنظرة الشمولية للنصوص الأدبية، ويقدَّم هذا الكتاب تغيرًا جديدًا منعشًا في عالم الأدب من كونه حمل في طياته آراء ثرة وعميقة، وكما ينبغي أن يكون هذا الكتاب في حقيبة وبيت وعقل كل من أراد التحدث في مفهوم الحداثة، وفهم حقيقة التطور في القصيدة العربية